ياسر عبدالعزيز
العدو الجديد لأمريكا...."
تنقسم التدابير التى تتخذها أى حكومة رشيدة من أجل حماية الأمن القومى فى بلادها إلى قسمين رئيسيين؛ أولهما يمكن اعتباره بمنزلة تدابير مستديمة لا تتغير بتبدل الأوضاع، مثل حماية التراب الوطنى، وصيانة السيادة، وإنفاذ القانون، أما القسم الثانى فيتصل بتلك الإجراءات التى يتم اتخاذها تجاوباً مع أنماط تهديد جديدة تشغل المجتمع وتؤرق الدولة.
ولطالما ظل مناط تمييز الأداء الحكومى الناجع متصلاً فى جانب منه بالقدرة على إدراك التهديدات الجديدة وإرساء الأطر التشريعية والتنفيذية اللازمة لمواجهتها، باعتبار أن أحد التعريفات المهمة لمفهوم «الأمن القومى» يتعلق بالقدرة على حماية القيم السائدة وتعزيزها.
يفسر هذا الاقتراب الكثير من التوجهات التشريعية والتنفيذية للدولة الوطنية، التى تستهدف معالجة انشغالات جديدة، وتسخِّر من أجل التجاوب معها جهوداً وموارد، سعياً لاحتواء التهديدات الطارئة وحرصاً على تجاوز آثارها.
فعندما وقعت هجمات 11 سبتمبر، انتفض المجتمع الأمريكى بأسره غاضباً وخائفاً من هول الضربة والصدمة، الأمر الذى ساعد الرئيس جورج دبليو بوش وإدارته آنذاك على تمرير سلسلة من القوانين الهادفة إلى «مكافحة الإرهاب المستند إلى دعاوى دينية».
وفى ستة أسابيع فقط تم إقرار القانون 56 للكونجرس رقم 107، والذى نعرفه باسم «باتريوت أكت» (USA Patriot Act)، وهو القانون الذى أصبح نافذاً بعد توقيع الرئيس بوش عليه فى 26 أكتوبر 2001.
لقد تلقى هذا القانون حين إصداره انتقادات حادة، إلى حد أن بعض النقاد اعتبره بمنزلة ردة على الأساس الدستورى الذى أرساه مؤسسو الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ عرّف القانون الإرهاب «بشكل فضفاض»، و«أطلق أيدى ممثلى السلطة التنفيذية دون محاسبة»، و«لم يخضع لمراجعة كافية»، و«تم تمريره فى البرلمان دون أن يدرسه أعضاء كثيرون»، و«منح بعض السلطات صلاحيات القيام بعمليات تجسس ومراقبة من دون إذن قضائى».
لم تكن تلك العبارات سوى بعض الانتقادات التى تم توجيهها للقانون، والتى لم تفلح أبداً فى الصمود فى مواجهة وجهة النظر الرسمية، التى تمثلت فى مقولة المدعى العام آنذاك جون أشكروفت: «القانون سيوفر لنا الأمن الذى يضمن الحرية».
وبسبب الصدمة الكبيرة التى تلقاها الأمريكيون فى أعقاب هذا الهجوم الإرهابى، كان من السهل أن يتم تمرير هذا القانون، الذى صدرت له تعديلات لاحقة لم تسلم أيضاً من الانتقادات، لكنها وجدت طريقها للإقرار والتنفيذ بسبب أن الدولة آنذاك شخَّصت «الإرهاب المستند إلى دعاوى دينية إسلامية» كأكثر مصادر التهديد لأمنها القومى خطورة.
شىء مثل هذا حدث أيضاً فى بلدان أخرى كثيرة، منها فرنسا على سبيل المثال، التى صادق برلمانها فى شهر فبراير الماضى بغالبية الأصوات على قانون جديد يحمل اسم «صامويل باتى»، المدرس الذى قُتل قرب باريس فى أكتوبر الماضى، بعدما نُسب إليه عرض صور مسيئة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على تلاميذ مدرسة ابتدائية يعمل فيها.
وينتمى هذا القانون، الذى لقى إقراره معارضة لم تنجح فى كبحه، إلى جملة من التشريعات التى ستتم المصادقة عليها لاحقاً تحت عنوان عريض هو: «تعزيز احترام المبادئ الجمهورية».
ولم يكن هذا القانون، وما ترتب عليه من إجراءات وقرارات تنفيذية وموارد وجهود حكومية، سوى استجابة لاعتبار الدولة الفرنسية أن الإرهاب المستند إلى دعاوى دينية يُعد أحد أخطر مصادر التهديد لأمنها القومى.
هكذا تجرى الأمور إذن فى عديد البلدان، ويحدث ذلك فى الشرق كما يحدث فى الغرب تماماً، لكن الجديد الآن أن التدابير الحكومية فى أكثر من بلد بدأت تأخذ منحى جديداً، وهو منحى يشخص التهديد اليمينى المستند إلى دعاوى قومية وعنصرية باعتباره أخطر التهديدات، بينما ينزوى التهديد المستند إلى دعاوى دينية إسلامية وتتراجع أهميته.
ويمكن القول إن الغرب واجه الكثير من الحوادث الإرهابية التى انطلقت من دعاوى عنصرية وقومية مستندة إلى فكرة «تفوق البيض» وكراهية الأجانب ومعاداة المسلمين والأقليات الأخرى فى الآونة الأخيرة، لكن حادث «كرايستشيرش» الذى وقع فى نيوزيلندا قبل عامين شكّل علامة فارقة فى هذا الإطار.
فقد أدى هذا الحادث الذى قام فيه متطرف أبيض بقتل نحو 50 من المصلين المسلمين فى مسجدين بوضع حالة العنصرية اليمينية على أجندة العالم، ومن بعدها تفجّرت أحداث يناير الماضى فى الولايات المتحدة حين تم اقتحام الكونجرس، فى ظل اضطرابات نادرة أجّجها مؤيدون للرئيس السابق دونالد ترامب، انطلاقاً من دوافع عنصرية وامتثالاً لنظريات المؤامرة وحملات الكراهية.
يوم الاثنين الماضى نشرتُ فى هذه الزاوية مقالاً بعنوان «مراجعات غربية للمسألة الإرهابية»، وهو المقال الذى سعى إلى إلقاء الضوء على ذلك التطور الكبير الذى بدا أنه أزاح التهديد المستند إلى دعاوى دينية إسلامية عن رأس قائمة التهديدات للأمن القومى الغربى، وأحلّ مكانه تهديد «تفوق البيض» واليمين الصاعد بقوة.
ويوم الثلاثاء الماضى، كشفت الحكومة الأمريكية عن «استراتيجية وطنية» جديدة لمحاربة الإرهاب الداخلى، وهى الاستراتيجية التى أضحت إحدى أولويات الرئيس جو بايدن بعد عدة اعتداءات عنصرية وقعت فى السنوات الأخيرة وشهدت ذروتها فى حادث الهجوم على الكونجرس قبل خمسة شهور.
وكما فعل «أشكروفت» تماماً، فقد قال وزير العدل ميريك جارلاند فى تقديمه لتلك الاستراتيجية: «إن أكثر التهديدات فتكاً ببلادنا تتجسد فى مؤيدى تفوق البيض وأفراد الميليشيات المناهضة للحكومة». وتتضمن تلك الاستراتيجية، بطبيعة الحال، تخصيص موارد ضخمة لمحاربة هؤلاء «المتطرفين العنيفين»، وتعزيز البيئة الاجتماعية والاقتصادية لتقليل مخاطرهم.